يتابع المكتب الوطني للنقابة المستقلة لأطباء القطاع العام، بامتعاضٍ واستغرابٍ شديدين، ما يُروّج في وسائل الإعلام من بعض المحاولات والتحليلات، سواء الصادرة عن أشخاص أو مسؤولين، والتي تروم ــ صراحةً أو بالتلميح ــ إلى تعليق أعطاب المنظومة الصحية على العاملين بها، ومن ضمنهم الأطباء رغم كل تضحياتهم، وكأنّ من يشتغل في أقسى الظروف وأفقر الوسائل هو سبب الأزمة لا أوّل ضحاياها. وإننا نُذكّر، انطلاقًا من حسّنا الوطني، أنّ نقابتنا كانت السّبّاقة منذ سنوات إلى دقّ ناقوس الخطر والتنبيه إلى “سكتة قلبية” تُهدّد المنظومة، إن لم تتوفّر إرادة سياسية ووطنية صادقة تُنهي زمن الحلول الترقيعية وسياسة “التجميل الإعلامي”.
إن مرتكزات نظامنا الصحي بُنيت على أسسٍ هشّة، افتقرت للأهداف الاجتماعية وشروط المساواة الدستورية، كما تمّ الرهان على القطاع الخاص دون الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الاجتماعية ببلدنا، والتي تختلف تمامًا عن دول تبنّت الخيار نفسه، بل هناك من المسؤولين من دعى علانية إلى أن الدولة عليها رفع يدها عن قطاعي الصحة و التعليم في حين تُركت المستشفيات العمومية لخصاصٍ مهول في الموارد البشرية والتجهيزات والتمويل. كما أنّ التسرّع طبع مختلف مراحل الإصلاح السابقة، حيث كانت تبحث عن الترقيع عوض التخطيط الاستراتيجي. ونُذكّر هنا بانعدام المحفزات لمقدّمي العلاجات، وضعف الإمكانيات المادية بالمستشفيات، وخندقةِ جزءٍ من المجتمع المغربي في خانة أنظمة تغطية صحية دون إيجاد تمويلاتٍ مستدامة لها، مما جعل أغلب المستشفيات تدخل في حالة إفلاس. ومع ذلك ظلّ طبيبُ القطاع العام يسدّ الفراغات، مقابل غيابٍ كامل لتثمين العنصر البشري بالقطاع الصحي العمومي، والذي ظلّ شعاراتٍ لربح الوقت لا هدفًا حقيقيًا لتجسيده على أرض الواقع.
ونقولها اليوم كما نادينا بها دائمًا:
نحتاج إلى منظومةٍ صحيةٍ مواطِنة، يكون فيها المواطن متساويًا في الخدمات، سواء بالقطاع العام أو الخاص، ويكون فيها الطبيب يشتغل بكرامة.
ويقدّم الخدمات الصحية للمواطن في ظروفٍ جيدة، عكس الوضع الحالي، حيث يجد نفسه مُضطرٌّ إلى أداء مهامه في وضعٍ يفتقر للشروط العلمية والمعايير الطبية معتمدا على “العلاج بالمجهود”، وفي غيابٍ تامّ لأيّ اعتراف، مقابل ثِقَل المسؤولية الملقاة على عاتقه….
فمن يتكفّل بالمواطن البسيط، بالمناطق النائية والمعزولة، سوى طبيب القطاع العام، بحملاته الإنسانية الجدّ مواطنة؛ لسدّ فراغات وإخفاقات منظومةٍ عرجاء. فكفى من تعليق الإخفاق على شماعة الطبيب في كل أزمة، وكفى من خطاباتٍ شعبويةٍ مجانية تُشهِّر بالمهنة وتُحرِّض على الكراهية بدل مواجهة الجذور الحقيقية للأزمة. فإن احتلال المشاكل الصحية للمرتبة الأولى في مسبّبات الاحتجاجات مردّه إلى المسؤولية التقصيرية للحكومات المتعاقبة بمختلف توجهاتها السياسية، بعد أن استنفد الطبيب صبره، وقلّت حيلته، في “ترقيع منظومةٍ صحيةٍ مختلّة”، مع تزايد طلبات العلاجات، مقابل ضعف الميزانية المخصّصة
وإذ يعلن المكتبُ الوطني تضامنه اللامشروط مع جميع المطالب السلمية بالحق في الصحة جرّاء تعثّر الولوج إلى خدماتٍ ترقى إلى المعايير الطبية؛ والتزامُه بالمساهمة في إنجاح أيّ حلولٍ واقعيةٍ ترقى بجودة خدماتنا الصحية وتضع المنظومة على سكة الإصلاح المستدام فإننا ندعو إلى فتح نقاشٍ حقيقيٍّ ومواطِن لإنقاذ ورش الإصلاح الحالي لمنظومتنا الصحية، وتجاوز الأخطاء التي يسير إليها يقينًا، واستغلال هذه الفرصة لخلق ورش إصلاحٍ مسؤول يُعالج أسس نظامنا الصحي كما يوفّر حلولًا للتمويل المستدام والحكامة، بدل الشحن والتشويه والترقيع والتنزيل الفوقي.
فلا يخفى على احد أن أي “إصلاح” يُصاغ أو يُنزّل فوقيًّا، أو يُقصي الأطباء و جميع العاملين بالقطاع من بلورة القرار، ليس سوى ترقيع جديد. فالإصلاح الجادّ يبدأ بـ:
- إيجاد حلٍّ حقيقيّ لإشكالية التمويل المستدام للصحة العمومية، بدايةً بمراجعة التعريفة المرجعية ومساواتها بين العام والخاص دون أية زيادة على المواطن، لإنهاء اختلالات التسعير وضمان استمرارية الخدمة العمومية.
- وضعُ خطِّ النهاية للرهان على القطاع الخاص، وتقويةٌ حقيقية للمستشفيات العمومية: سدّ الخصاص في العنصر البشري بأعدادٍ كافية، وتوفيرُ المعدات الطبية والبيوطبية في كل مؤسسةٍ على حدة، حتى يتوفّر بكل إقليم عرضُ علاجاتٍ يستجيب للمعايير الطبية ويُضاهي ــ على الأقل ــ ما هو متاحٌ في المصحات الخاصة المتوسطة. أمّا إعادة توزيع الخصاص فليست حلًا؛ فهي لا توزّع سوى العجز نفسه.
- حماية مكتسبات القطاع العمومي الحالية فرغم الانتقادات و المشاكل فهي موجودة كما يجب منع تبعية تُحدث صراعًا بين مستويات العرض الصحي (الجامعي/الصحة العمومية)
- الإبقاء على استقلالية شبكتي الطب الوقائي والعلاجي عن بعضهما البعض؛ فبدل التوجّه الحالي بالتركيز على الطب العلاجي والذي سيقضي على فعالية المراكز الصحية في الطب الوقائي، ندعو إلى خلق تنسيقٍ فعّال بينهما، كما يجب تطوير الشقّ الوقائي إلى طبٍّ عائلي ذي استقلاليةٍ تدبيرية ويقدّم خدماتٍ فعّالةً وذات جودةٍ إلى الأسرة المغربية، خصوصًا في المناطق المهمّشة.
- .وظيفة صحية عمومية بضمانات حقيقية: حفظُ حقوق الوظيفة العمومية (استقرار مهني وأسري، حماية من الشطط)، مساطر شفافة للتكليف ومقر العمل والتوقيت والحركية، وتنصيص صريح على المسؤولية الطبية والامتياز القضائي.
- تحفيز الطبيب ماديًا ومعنويًا: لمواجهة ظواهر الاستقالات و ترك الوظيفة و الهجرة و العزوف المتصاعد عن الوظيفة العمومية و دلك بداية بالالتزام بالاتفاقات السابقة مع تجويدها .
- مسارات مهنية عادلة ومرِنة و تكوين مستمر فعال وممَوَّل، وشراكة متوازنة بين العام والخاص في الاتجاهين.
و أخيرا فان المكتب الوطني يخبر كل من يهمه الأمر أننا كجسم طبي نرفض رفضًا قاطعًا المسّ بوطنية الطبيب أو تصويره كمنتفع على حساب معاناة المرضى. فيما الواقع يُظهر أن تعويض الحراسة الإلزامية بعد منتصف الليل لا يتجاوز دريهمات؛ إن الرهان على الشعبوية من أي كان لن يُعقّد الوضع إلا أكثر ويُعمّق فقدان الثقة بدل وضع خريطة طريق جادّة لإصلاح القطاع و الذي نصبو إليه جميعا خدمة للوطن و المواطنين كما عهد علينا في محطات سابقة و منها أزمة كوفيد و زلزال الحوز
كما يدعو المكتب الوطني الأطباء والصيادلة وجراحي الأسنان إلى الالتفاف حول نقابتهم المستقلة، دفاعًا عن المهنة وكرامتها، وإلى تعزيز الوحدة بين كل مكوّنات الجسم الطبي، لأن معركة الحق في الصحة للمواطن وكرامة الطبيب لا تُربَح بالتشرذم أو التواكل.
و عاشت النقابة مستقلة موحدة مناضلة و صامدة
عن المكتب الوطني